فصل: (الآية الرابعة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الحديث الصحيح السابق: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله»، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. انتهى.
قلت: وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال في «سبل السلام شرح بلوغ المرام»: قلت: وأما البنادق المعروفة الآن فإنها ترمي بالرصاص، فيخرج وقد صهرته نار البارود كالميل، فيقتل بحده لا بصدمه، فالظاهر حل ما قتله. انتهى.
وتعقبه ولده العلامة السيد عبد اللّه محمد الأمير وقال: هذا وهم من والدي- قدس اللّه تعالى روحه- فإن الرصاص لا يذوب أصلا، إنما تدفعه نار البارود، فيصيب بصدمة، يعرف هذا كل من يعرف البنادق المذكورة، واللّه أعلم. انتهى.
أقول: التحقيق أن النار تدفع الرصاص أولا، فيصيب الصيد، ثم يخرق الرصاص الصيد، فيموت الصيد بخرقه. فيكون حلالا كما احتج به الشوكاني. واللّه أعلم.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ}: هي التي تتردى من علو إلى أسفل، فتموت من غير فرق، بين أن تتردى من جبل، أو بئر، أو مدفن، أو غيرها.
والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها.
{وَالنَّطِيحَةُ} هي فعلية بمعنى مفعولة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم إنها فعلية بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان. وقال: نطيحة ولم يقل نطيح، مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب، صفة لموصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلا الاسمية.
وقرأ أبو ميسرة: والمنطوحة.
{وَما أَكَلَ السَّبُعُ}: أي وحرم ما افترسه ذو ناب، كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها. والمراد هنا ما أكل منه السبع، لأن ما أكله السبع كله قد فني، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع الشاة، ثم خلصوها منه أكلوها، وإن ماتت ولم يذكوها.
{إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقا وفيه حياة.
وقال المدنيون: وهو المشهور من مذهب مالك، وهو أحد قولي الشافعي: إنه إذا بلغ السّبع منها إلى ما لا حياة معه، فإنها لا تؤكل. وحكاه في «الموطأ» عن زيد بن ثابت، وإليه ذهب إسماعيل القاضي، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعا أي حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم. والأول أولى.
والذكاة في كلام العرب: الذبح. قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة:
التمام، أي تمام استكمال القوة.
والذكاء: حدة القلب، وسرعة الفطنة.
وقال اللخمي: المنخنقة والموقوذة، بالذّال المعجمة، وهي التي تضرب حتى تموت، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، ما مات منها فحام، وما لو ترك لعاش يذكى، وغير المرجو، والذي حدث به في مواضع الذكاة لم تؤكل، وفي غيره يذكى ويؤكل عند مالك.
قال ابن القاسم: ولو انتثرت الحشوة، لأن قوله تعالى: {إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ} بعد ذكر هذه الأقسام، استثناء متصل، لأنه الأصل، وقيل: لا يؤكل لأنه منقطع أي من غيرهن، لأنه لو لا ذلك لكان قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} يغني عنه.
وفي الجواهر: منع أبو الوليد جريان الخلاف الذي ذكره اللخمي إذا كان المقتل في غير محل الذكاة، وقال: المذهب كله على المنع، وإنما الخلاف إذا بلغت الناس بغير إصابة مقتل.
والذكاة: ما تذكى به النار، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما.
وذكاء: اسم الشمس.
والمراد هنا إلا ما أدركتم ذكاته على التمام.
والتذكية في الشرع: عبارة عن انهمار الدم، وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور، مقرونا بالقصد للّه، وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي تقع بها الذكاة، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فهو آلة للذكاة، ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة.
{وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}: قال ابن فارس: النصب: حجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح.
والنصائب: حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وقيل:
النصب جمع واحده نصاب، كحمار وحمر، قرأ طلحة بن مصرف: بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو: بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري:
بفتح النون والصاد، جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال.
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة، يذبحون عليها.
قال ابن جرير: كانت العرب تذبح بمكة، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت، ويشرحون اللحم، ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام، قال المسلمون للنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فأنزل اللّه: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
والمعنى: والنية بذلك تعظيم النصب لأن الذبح عليها غير جائز. ولهذا قيل: إن على بمعنى اللام، أي: لأجلها. قاله قطرب، وهو على هذا داخل في غير ما أهلّ به لغير اللّه، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه، وقيل: معناه ما قصد بذبحه تعظيم النصب، وإن لم يذكر اسمها عنده، فليس مكررا مع ما سبق، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم مثلا. فتأمل.
{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا}: معطوف على ما قبله، أي وحرم عليكم الاستقسام.
{بِالْأَزْلامِ} وهي: قداح الميسر، واحدها زلم.
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع:
أحدها: مكتوب فيه أفعل.
والآخر: مكتوب لا تفعل.
والثالث: مهمل لا شيء عليه، فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده- وهي متشابهة- فأخرج واحدا منها، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه، وإن خرج الثالث، أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.
قال الزجاج: لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا، وإنما قيل لهذا الفعل: استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله، كما يقال استسقى أي استدعى السقيا.
فالاستقسام: طلب القسم والنصيب.
وجملة قداح الميسر عشرة، وكانوا يضربون بها في المقامرة.
وقيل: إن الأزلام: كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل: هي الشطرنج.
وإنما حرم اللّه الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب، وضرب من الكهانة.
{ذلِكُمْ فِسْقٌ}: إشارة إلى الاستقسام بالأزلام، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا.
والفسق: الخروج عن الحد، وهذا وعيد شديد لأن الفسق هو أشد الكفر! لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة بين الإيمان والكفر.
قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}: هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض وقع بين الكلامين للتأكيد، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، أي من دعته الضرورة.
{فِي مَخْمَصَةٍ}: أي مجاعة، إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات.
والخمص: ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة وخمصانة، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع.
{غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ} الجنف: الميل.
والإثم: الحرام، أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد. وكل مائل فهو متجانف وجنف.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ له رَحِيمٌ (3)} به، لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع، مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغيا على غيره، أو متعديا لما دعت إليه الضرورة.

.[الآية الرابعة]:

{يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)}.
قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: هي ما يستلذ أكله، ويستطيبه أصحاب الطبائع السليمة، مما أحله اللّه لعباده، أو لم يرد نصّ بتحريمه. وقيل: هي الحلال، وقيل: الطيبات الذبائح لأنها طابت بالتذكية، وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ: معطوف على الطيبات، بتقدير مضاف لتصحيح المعنى، أي أحل لكم صيد ما علّمتم من أمر الجوارح والصيد بها.
قال القرطبي: قد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن: أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علّمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب، والجوارح، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل من الجوارح: أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير.
قال: وأجمعت الأمة، على أن الكلب- إذا لم يكن أسود، وعلّمه مسلم، ولم يأكل من صيده الذي صاده، أو أثّر فيه بجرح، أو تنييب، وصاد به مسلم، وذكر اللّه عند إرساله- صيده صحيح، يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم، شرط من هذه الشروط دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه، وكالبازي والصقر ونحوهما في الطير، فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب.
يقال: جرح فلان واجترح، إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} [الأنعام: 60]، وقوله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ} [الجاثية: 21].
{مُكَلِّبِينَ}: حال، والمكلب: معلّم الكلاب كيفية الاصطياد. وخص معلم الكلاب، وإن كان معلم سائر الجوارح مثله، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ}- مع أن التكليب هو التعليم- لقصد التأكيد لما لابد منه من التعليم. وقيل إن السبع يسمى كلبا، فيدخل كل سبع يصاد به، وقيل:
إن هذه الآية خاصة بالكلاب.
وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال: ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير، فما أدركت ذكاته فهو حلال، وإلا فلا تطعمه.
قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحل صيده؟ قال: لا! إلا أن تدرك ذكاته.
وقال الضحاك والسدي: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ: هي الكلاب خاصة.
فإن كان الكلب الأسود بهيما، كره صيده الحسن وقتادة والنخعي.
وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال ابن راهويه.
فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم وغيره.